الجمعة، 27 مارس 2020

سفن الراحلين





صباحكم تلاوات من نور تسعد قلوبكم جميع
وأهزوجة فرح تعم الأجواء ومنابع الجمال تزداد بكم
أنرتم زوار ومتابعي مدونة أناقة فكر (لنقرأ معاً )
موضوعي اليوم بعنوان (سفن الراحلين)


شاب الرأس ، وإنتشرت خصلات الشعر الأبيض وتكاثر بقاع الرأس ، وتجعدت معالم الحياة ، وأصبحت مجرد خطوط وهمية تسري بالجسد وتظهر ملامحها بكل قوة ، وعجزت الروح عن إكمال المسير وإستكانت ، وذبل القلب من آنات باتت تحرق الروح وتشعل لهيب النار بذلك القلب ، والعيون مازالت باكية على مجهول غاب ولم يعد ، ما زالت متربصة بعين الأمل والتفاؤل لتنتظر قدوم هذا البعيد .
منذ سنوات عديدة وأنا جالسة أنظر لتلك السفن الراحلة ، التي تحمل بجعبتها الكثير والكثير من الأسرار والأشخاص ، فهنا بتلك السفينة الراحلة أودعت فلذة كبدي ، فقد كره الحياة وضاقت به الروح على تلك الأرض فإختار الهجرة والرحيل ، وردد لي قبل رحيلة يا أماه كلها أيام معدوات وسأكون أمامك أميراً تفخرين وتتباهين به ، فأنا يا أمي أريد الرحيل بتلك السفن الراحلة ، فقد عشقت الرحيل ، وأعدك يا عيني وقرة حياتي بأن لا أطيل البقاء وحتماً سأعود بيوم من الأيام ، وتركني وغادر بسفن الرحيل ، وبقيت جالسة سنين عديدة أنتظر الذي غاب وغاب ولم يفكر بالرجوع ، أصبحت تنتظر تلك العيون بفتحة وضمة متكررة ، كما تلك الذئاب عندما تتربص وتشمشم رائحة فريستها . 

والجسم أصبح هزيل لا يقوى على التحدي والصمود ، فلقد تكاثرت الهموم وآنات الحزن على ضلوع الروح فيناً عندما غادرت سفن الراحلين حياتناً ، وكلما هل يوم جديد إستبشرت الروح وهللت من السعادة ، لعل تلك السفن عادت بروح الأحباب ، يوم يجر يوم ، وشهر يجر شهر ، وسنة تجر سنوات ، وطالت السنوات وطال الإنتظار وذبلت الدموع وكلما حاولنا التماسك والإستقامة أكثر للأسف نعوج أكثر من كثر آنات الحزن .
منذ أن غادرت سفن الراحلين حياتي وأنا على هذا الحال ، أنتظر بكل شوق وحنين وليس أمامي إلا الإنتظار ، رغم أن الإنتظار طال كثيراً ، وجعلني منهكة غير قادرة على المسير فأصبحت بعض الآلآم لا تمحى بحياتي وتزداد ضراوة ومرارة كلما عدت أمام ناظري الضعيف سفينة من سفن الراحلين ، فوجع الفراق يضرب بالرأس وكلما زادت ضرباته يصبح أقسى من أن يحتمل .
وخلال إنتظاري مرت أمام ناظري سفن كثيرة محملة بالكثير من الأشخاص والبشر ، فهناك من ركب سفن الراحلين رغماً عنه ، وإنطلق يغوص بأعماق البحر والدموع تنهال على خديه كما السيول الجارية ، وحالة الإنكسار لا تفارق قلبه ، ودقات الفكر والعقل تردد لاخيار لك أيها الإنسان ، فالحياة تحتاج منك أن تغترب وتهاجر من أجل العيش ، من أجل توفير الأمن والأمان والحياة الإقتصادية الهادئة لمن تركتهم خلفك ، فأصبح يغوص بأعماق البحر ويبتعد أكثر فأكثر دون النظر للخلف خوفاً من التراجع والضعف أمام تلك الدموع المنهمرة خلفه . 
رغم أن الخلف من وراءه يحمل صرخات مدوية لطفل يردد بصرخاته لا تتركني يا أبتي وترحل ، وآنين مكتوم لأم ودعت فلذة كبدها رغماً عنها ، وإنهيار لزوجة ودعت سندها وشريك حياتها ، ودموع حسرة لأخت رأت أن دروب حياتها ضاعت برحيل شقيق عمرها وعزتها ، ودموع وإنكسار لأب ودع عموده الفقري وأخ يردد لا تتركني يا سندي وعزوتي .
وآآه على آآآه من هذا الحال الذي يجبرناً على فراق أحبابناً من أجل العيش والراحة ، كم قاسية تلك الحياة تجعلناً نشعر بالحزن والأنين باستمرار ، ولا تعطيناً لحظة فرحة واحدة إلا جعلت مقابلها الدموع والحسرة ، لا أدري لماذا كتب علينا هذا الأمر ، فكل فرحة لا بد أن تقابلها دموع منهمرة ، وكل لحظة حب وعشق لا بد أن يقابله فراق وأوجاع ، وكل سعادة لا بد أن يقابلها انكسار ، لماذا لا تكون الحياة وردية كما يرسمها كل عاشق وكل محب ، عجبت لزمن ضاعت فيه قلوب المحبيين بسبب الفراق ، عجبت لزمن لا يطيق رؤية السعادة بقلوب من يعشقها .  
آآه فالسفن بتلك الحياة كثيرة ومتنوعة ، وهناك سفينة آخرى لأشخاص ركبوها بإرادتهم ، بعدما عشقوا الحياة ، وعاشوا فيها أجمل مراحل عمرهم ، كانت لهم فيها لحظات فرح وحزن وسعادة ، عشقوا بلادهم كثيراً ، فأصبحت كالنبض الذي تحيا به الروح ، تغيرت حياتهم كثيراً عندما دق باب العشق قلوبهم ، فتلونت الحياة أمامهم ، وأصبحت كما الورد الجوري ، رائحتها زكية وجميلة ، وبلسمها كما الحرير الصافي ، لكن الحياة لا تبقى بلون واحد .
فحتماً سيمر على الإنسان ألوان متعددة بتلك الحياة ، وكلها أيام وتبدلت تلك الفرحة إلى تعاسة وحزن كبيرة ، فقد أصبحت البلاد باهته ، والحياة لا تطاق ، فلقد دق جرس الفراق أبواب هذا القلب ، وأذاقه من كأسه ما لا تشتهي الأنفس ، فأرغمه على الحزن والذبول بعدما كان مضيء كالشمعة المنيرة ، فعجزت الروح عن إدارك هذا الحزن والفراق ، ورأت الدنيا كما الكحل الأسود ، لا يطاق بها العيش فإختارت الهروب من وجع الفراق إلى سفينة الراحلين ، لتأخذها إلى عالم بعيد جداً يعيش فيه مع أحزانه وأوجاعه .
وهناك سفن آخرى ركبوها أناس ضحكوا على أنفسهم ، وإستهزءوا بها كثيراً ، عندما قالوا لأنفسهم بأننا ركبنا سفينة الراحلين من أجل الظروف التي أرغمتنا ، رغم أن الظروف أحياناً تكون كما الصاعقة على الإنسان ، لكن لن تجبره على ركوب سفينة الراحلين ، فالحياة تحتاج إلى الأخذ والعطاء ، إلى التفكير والتدبير ، إلى الصبر والتحدي ، إلى المحاول والإستمرار ، إلى الركوع والنهوض ، فكلناً نتوجع ونمر بظروف قاسية لكن هناك من يتحدى الظروف ويجعلها تسير معه كما يريد ، أما من أراد ركوب سفينة الراحلين من أجل الظروف فهو إنسان خمول لا يحب أن يعارك الحياة ، و إختار أن يركع لتلك الظروف .
وهناك سفينة آخرى لأشخاص ركبوها من أجل الغوص فقط بأعماق البحر ، من أجل الشكوى لهذا البحر عما تشعر به الروح من حزن وأنين ، فكم سمع البحر من صرخات مدوية ، وكم عاشت الأسماك مع أسرار عميقة بأعماق البحر ، وكم تمنت أمواج البحر أن ترمي بتلك الآحزان إلى شاطئها ، حيث الرمال المتناثرة تقذفها هنا وهناك ولا يشعر بها أحد ، وكم غردت طيور البحر بألحانها لتعزف على أوتار القلب وتجعله يرمي بأوجاعه.

فآآه من تلك السفن الراحلة ، فقد تشققت جدرانها عندما تعرفت على أوجاع فاقد ومحروم عاش الأسى والهم ، وعاشت لحظات إنسان مشتاق تلوع وذاق المر أشكال من أجل رؤية معشوقه ، فكلما سمعت قصة مغترب قذفت بأجدافها بوسط البحر لتتصادم مع أمواج البحر الغاضبة ، كما وغردت عصافير البحر بألحان اللهفة والحنين لإنسان شعر بأن حلمه لمجهول بات مستحيل ، ومازالت تلك العصافير تغرد بصوتها لعلها تعطي روح المشتاق نوعاً من الأمل والتفاؤل ، كأنها بتغريدها تقول له إصبر فإن الله سيعوض الصابرين ، ويعطيك فرصة اللقاء وتكحل فؤادك برؤية المحبوب .
ورغم ذلك بتلك الحياة لقد تغير الحال وتغيرناً كثيراً ،كل سفينة تمر أمام ناظرناً تجعلناً نشعر بالضعف لدرجة أننا أحياناً نشعر بالبرد في عز الصيف ورغم أن الرياح التي تعصف بناً لا تحمل إلا رياح شديدة الحرارة ، فأصبحنا بعز شبابناً مهرولين ، وشاخ القلب من كثر الضربات ، لدرجة أننا لا نعرف عن بعضناً سوى أننا على قيد الحياة ، ربما لأن لحظات الفراق أطيلت البقاء ، وربما لأن الإنتظار ما زال مستمر وبدون جدوى ، لا أدري حقاً ربما لأن الدماء التي تجري في عروقناً تتجمد بعد كل فراق ، وهى تلك المعادلة الصعبة والتي لم يتم التوصل لحلها بعد بعلوم الحياة .
ماذا أقول فالوجع يسكن الروح ، والآنين ما زال يدوي بصرخاته الصامتة بكل قلب ، والفؤاد ما زال معلق ومشتاق لإحتضان حبيب بعيد ، تبعدنا عنه مسافات من بحور وجبال ومحيطات ، ولا يطيب هذا الوجع إلا بلقاء الأحبة ، لكن أردد بيني وبين نفسي بعين الأمل والصبر : أيها القلب كن جبلاً كما تلك الجبال الشامخة ولا ترهبك وتضعفك قوة الضربات التي عشتها بحياتك ، فقد ثبت في تاريخ الحياة والأبطال أن النصر في الحياة يحصل عليه من يتحمل الضربات بقلب مؤمن ويعيشها ويتعايش معها بكل صبر وأمل ، لا من يضربها .
وفي النهاية الحياة تسير شئناً أم أبيناً ، وسفن الراحلين كل يوم تعج بملايين البشر الهاربين من تلك الحياة ، وتلك المشاعر الممزوجة ما بين حزن وسعادة وحب وفراق وألم ، لكن بالنهاية الإنسان عليه أن يحارب ويحارب من أجل حلم يريد الوصول إليه ، وأتمنى أن تخف سفن الراحلين من أصحابها المغادريين .
بانتظار أرائكم وتعليقاتكم 

eman ahmaed

الاسم المستعار : همس الاحباب

 

تحياتي 
  
   

هناك تعليق واحد:

الشعور الخفى

  السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،، الحب .. هو ذلك الشعور الخفى الذى يتجول فى كل مكان ويطوف الدنيا بحثا عن فرصتة المنتظرة ليداعب الأحساس وي...